يمنات
ليس لزاماً على البشرية ان تكترث لما يدور في الفضاء الخارجي فالبحث عن المجهول غريزة إنسانية أزليّة بدافع الفطرة و الفضول والبحث عن الذات في خبايا الكون الفسيح, ديكارت لا يعترف بالمعرفة الحسيّة لبلوغ الحقيقة بل عن طريق الشك يمكن للمرء تملّك الحقيقة كما عرفها ببساطة الكوجتو الديكارتي( أنا افكر إذن أنا موجود) وان كان الواقع اليمني ينسج حكايته بشكل آخر بالعودة الى الماضي والتفتيش عن خبايا الإنسان عن الأصالة وعن الذات والتأريخ تدفعنا لا أرادياً وبدون شعور للتفكير و بدافع الفضول أيضا للبحث عن حقيقتنا وهويتنا ووجودنا وبذا نصنع حاضرنا ومستقبلنا .. وما سأجعلة نموذجاً للبحث -ولو بنظرة سريعة حيث لا يتسع المقال لذلك- عن الحركة الحوثية او كما تحب ان تسمي نفسها بأنصار الله ليست ببعيدة عن الإمتداد التأريخي للهوية اليمنية الممتدة من جذور التأريخ الاسلامي و بحكم ان الإنسان والحضارة متلازمتان -لا يمكن ان ينفصلا ولا يمكن ان يكونا جزئين منفصلين- بل من روح واحدة ذات اطار متناسق ذو تأثير متبادل.
عوامل التأريخ والإنسان وتقلبات الأحداث والأنظمة في اليمن انجبت الحركة الحوثية كحركة ثورية معارضة -إبان حكم النظام السابق- ولّدتها الظروف السياسية وتنوّع الحكم وزاد من ظهورها الحروب الطاحنة التي خيضت ضدها بشكل تعسفي ظالم , الحركة الحوثية قائمة على (المظلومية الجمعية) او هكذا تبدو تجاه ما واجهته من قتل وخراب ودمار واقصاء وتهميش على مدى سنوات الحكم الجمهوري بشكل عام, لعبت التعبئة الخاطئة والتجييش والتخويف ضد هذا المكون دوراً بارزاً في ظهوره على الساحة الدولية والإعلامية إبتداءا بوصفه حركة متمردة ومن ثم حركة ثورية الى مؤخراً لاعباً اساسياً في اليمن- وان كان بطريقة غير مباشرة- عبر الشعبية الهائلة والقاعدة الجماهيرية العريضة التي يتمتع بها والتي رافقت مسيرته من جبال مران الى صعدة ومن ثم التوسع في انحاء الجمهورية كبديل على الساحة اليمنية, بعد إخفاق مختلف القوى وعلى رأسها الإخوان في تلبية مطالب الشعب والوصول بسفينة اليمن الى مرفأ الأمان , وبعد غياب وتلاش النظام السابق وتفتيتة تدريجياً في إطار الصراع السياسي والتناحر الداخلي الذي اضعف التحالفات والولاءات وظلّت حينها الحركة الثورية بعيدا عن اقحام الذات في حروب وصراعات سياسية طائلة لا ناقة لها فيها ولا جمل.
في الوقت الذي بدأت شمس الإصلاح في الغروب مع أفول نجم المؤتمر كان تمدد انصار الله على الساحة يفرض وجوده وبقوة كمدافع عن حقوق الشعب ومطالبه المشروعة خاصة وانه جاء متماشياً مع ثورة فبراير التي انقلب عليها الإخوان وتنازل عن اهدافها بقية مكونات الثورة الشعبية وان ظلت بعض القوى المستقلة محايدة او تتفاعل بتأثير ايجابي طفيف خاصة مع تدهور الأوضاع الأمنية و الإقتصادية والمنعطفات الخطيرة التي مرت بها اليمن تفرض من وجود الحركة الحوثية انصار الله كقوة ثالثة أو ك (طريق ثالث) وخيار جديد وبديل في مواجهة تحديات اليمين السياسي بقوته المادية والعسكرية -التي بدأت تتلاشى تدريجياً- واليسار المحايد الذي آثر الصمت والوقوف بحيادية مطلقة أمام قضايا الشعب المصيرية.
إن الأمانة التاريخية والواجب الوطني يفرض على أنصار الله اعادة النظر في هيكلة وبرمجة الحركة التنظيمية برؤية مختلفة وروح عصرية حضارية وسياسة تتناغم مع المحيط الدولي والانعتاق من قيود الماضي بل ونسيانه والتأقلم مع متطلبات العصر والتكيف مع الواقع الجديد وسبر أغواره والتعامل بمرونة اكثر مع التغيرات الحاصلة والمتطلبات الحاضرة , وفتح نوافذ حوارية جديدة مع مختلف الأطياف الفاعلة على الساحة الوطنية و اتباع اسلوب التطمين بل -وان جاز التعبير- التنازل عن بعض الشعارات لتحقيق هدفها الأسمى وهو الشعب وان بصورة علنية ظاهرة وما يمثله (شعار الصرخة) من عائق امام التوسع الإيجابي و الدولي و ولوج السياسة من اوسع ابوابها العملية , وان كانت فلسفة الشعار الرمزية مطلب اكثر المنتمين للحركة بل ويمثل روح انطلاقتها الأولى ومسيرتها وتمثل النظرة العامة للأغلبية -مع بعض التحفظات- كأيديولوجية مقاومة وممانعة ممتدة عبر الأفق الإسلامي المقاوم إلا انها أتت غير موائمة ومتناسبة كلياَ مع الواقع السياسي الجديد الذي يفرض بشكل او بآخر على الهيكل القيادي و التنظيمي للحركة اعادة النظر في السياسات المتبعة على وجه الخصوص حينما يكون الطموح السياسي لا سقف له يتوجب التعامل مع الداخل والخارج بمرونة سياسة وانفتاح اكثر مع استقطاب اكثر للنخب السياسية الحاكمة والثقافية وتأسيس قواعد نخبوية وكوادر مؤهلة وقاعدة شعبية عريضة تدين بالولاء للوطن في أطر الحركة المتماشية مع المصالح العليا للأمّة وتتفتق عنها رؤى وامكانيات سديدة تجعل من اللا ممكن ممكناً ومن المستحيل محالا.
صعود ونمو الحركة بشكل عشوائي وبقفزات هائلة و بطريقة غير منظمة وبدون رؤية واضحة وبرنامج (ميثاق وطني) محدد سيقودها الى الاندحار والتلاشي تدريجيا في مراحل التكوين الأولى وانحسار تأثيرها في اتباعها, كما يجب عدم الاعتماد على الأنصار الجدد الهاربين من حياض المؤتمر بدوافع الانتقامية من الإنقلابيين -كما يسمونهم- وربما لإشعال الفتن ليس مدعاه للثقة والاطمئنان ان لم تصدق النوايا وتكتسب القناعات وتغرس المثل والمبادئ, و بغض النظر عن الحركات والأحزاب الوطنية التي كانت خليط عام من التأثير القبلي الاجتماعي كعامل داخلي ساعد على نشوء المؤتمر الشعبي العام وبين الحركة الإسلامية امتداداً لحركة الأخوان في الوطن العربي التي أوجدت من حزب الإصلاح ممثلاً لها في اليمن نابعه من برامج وقواعد وخطط سير عمل وحوافز خارجية تدين بالولاء أولاً وقبل كل شيء للجماعة مستوحاه من تعاليم مؤسسها حسن البنا وسيد قطب , ساعد في نشوئها القبول العام ووضوح الرؤية والعمل الدؤوب لسنوات مع نظرة بعيدة المدى المستمدة من نهج الإخوان بتكوين دولة الخلافة الموعودة.
حركة انصار الله تفتقر وبشكل ملموس الى البرامج والمواثيق والخطوط العريضة التي تؤهلها الى التقدم بخطوات كبيرة وواسعة وواثقة في الاتجاه الصحيح بل وتساهم في تطمين اكثر النخب واستقطاب الكم الهائل الى احضان الحركة كبديل وخيار ثالث.
(مرحلة التأسيس) او مرحلة التكوين قد تكون المرحلة الأكثر وقتاً وعمراً زمنياً وكلفة من الجهد والبناء والتخطيط التي وإن تكلّلت بالنجاح في آخر المطاف تليها (مرحلة التسييس) والخوض في غمار السياسة وبقوة فليست أقل شأنا من بقية الأحزاب بنات الأفكار والنظريات المستوردة والتشريعات الدخيلة المتأثرة بالبعد الأقليمي والمحيط الدولي خاصة حينما تكون نابعة من ديننا الإسلامي الحنيف ومتماشية مع خصوصية الطبيعة البنيوية والثقافية لليمن, ولوج باب السياسة بحاجة لمفتاح -وليس لمعجزة – ومفتاحها وضوح الرؤية ببرنامج سياسي معتدل و المرونة والتأهيل والجرأة واثبات الذات في الوسط الاجتماعي والقدرة والكفاءة والأهلّية المطلقة لتحقيق مكاسب العامة والتناغم مع متطلبات الأكثرية, وبعدها بمراحل تتم مرحلة (بناء الدولة) المدنية الحديثة التي ينشدها الجميع.
إن خيار تكوين حزباً سياسيا سيظل حاجة ملّحة ومطلباً مشروعاً وفكرة مطروحة في اطار التعددية السياسية والديموقراطية بالخصوص مع المطالبة بشراكة وطنية وائتلاف حاكم مع بقية الاحزاب, فالحركة وان كانت ستلعب دور المرجعية بثقلها الديني الا ان تواجد حزباً سياسياً منضوياً تحت لواءها سيسهل لها الطريق الى الإنزلاق في معترك الحياه السياسية بسلاسة والجلوس مع بقية الأحزاب على طاولة واحدة في حال قيام شراكة من نوع ما بل وسيساهم في التطمين من النوايا الحسنة خاصة مع الصورة السلبية لدى البعض ومع التعبئة الخاطئة عبر سنين نتاج سلبيات النظام السابق بأنها حركة مسلحة ميليشاوية تغرس في الأذهان لوحة مشوهه فقط عن أناس يحملون السلاح ويصرخون بالشعار فحسب بحكم الحروب التي استدرجها اليها الإخوان وميليشياته وان فرضت عليها في موقع الدفاع عن النفس إلا ان تجميل وتحسين الصورة وعدم الانجرار الى العنف والعنف المتبادل و الى فخ الحروب -وان كانت مفروضة- ومعالجة السلبيات عبر سياسات أكثر انفتاحية تخلق جواً عاماً من الارتياح الشعبي وتؤهل الحركة لتبؤ مكانه جوهرية مركزية وتأثير أكبر فاعلية.
إن من ايجابيات الحركة انها خلقت توازناً عاماً في البلد واضاعت الفرصة على التيارات المتطرفة من الصعود والإستحواذ على تقرير المصير بإنفرادية بل وساهمت في تقويض الجماعات الإرهابية وشلّ حركتها ونزوحها الفكري المسلح الى الجنوب وهذا ما يفسره نشاط الجماعات الإرهابية في المناطق التي يقل او ينعدم تواجد انصار الله فيها كما في الجنوب والبيضاء, بل وساهمت بشكل ايجابي في إحلال الأمن والإستقرار في المحافظات التي تتواجد بها وأضافت لها نكهة الجمهورية والحرية مع سيادة الدولة التي كانت غائبة عنها لعقود اضف الى ذلك انها ساهمت بشكل فعال في خنق سلطة الشيخ والقبيلة في الشمال وانهاء عروش الإستبداد.
ما يؤخذ حقاً على الحركة وان كانت في إطار الخصوصية التي تتمتع بها إلا أنه يجدر الإشاره الى ان التقليد والتبعيّة بشكل أو بآخر كما هو ظاهرياً للجمهورية الاسلامية الإيرانية او محاولة استنساخ حزب الله آخر في اليمن تتعارض وبشدة مع النموذج اليمني و لا يمكن تطبيقه في الحاله اليمنية مع مختلف الشعارات والفعاليات , تأريخيا وعملياً يثبت ان تقليد الغير والإنسلاخ عن الذات يؤول دائماً الى الفشل والنموذج الإخواني وبقية الأحزاب والنظريات التي تم محاولة يمننتها الا انها افتقدت الى القبول وكان مصيرها الفشل, عبثية التصرف كما عرفها (صامويل جانسون) ناتجة عن التقليد الأعمى و(جورج سانتايانا) يلمح الى كون التقليد موضة همجية تنتج الإبداع دون سبب و التقليد دون فائدة , وعليه فخلق نموذج الدولة الإسلامية في الحالة اليمنية يكاد يكون مستحيلاً و نوع من الفصام للتباعد المذهبي ولخصوصية العادات والتقاليد اليمنية كما ان إيجاد حزب الله آخر في اليمن يكاد يكون هو الآخر منفياً بحكم العوامل الجيوسياسية للمنطقة وبعدها عن العدو الأول للأمة.. هذا لا يعني بالضرورة التخلي عن محور المقاومة ودعمها, لكن اليمن تتمتع وعلى مدى قرون بخصوصيتها المذهبية والسياسية والإجتماعية ولا تتقبل التطبيع المباشر او الإنصهار كليا في الآخر والتجرد عن الهوية الوطنية, وربما لهذه الاسباب ولّدت عدم قناعات كثيرة من الإنضمام للحركة او الإطمئنان لنواياها مع الخوف والتوجس منها.
وعليه ما نحن بحاجة الية في المشهد اليمني الى ازالة الحواجز واذابة العوائق وفتح صفحة جديدة تتفاعل وتتعاضد فيها القوى الخيّرة لانتشال اليمن من جحيم الأوضاع المتردية واخراجه من عنق الزجاجة ومن النفق المظلم الى أجواء النور والحرية والحياة.